كلمة د.الخشت في مؤتمر الأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم

في البداية أوجه أطيب تحية إلى الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر على هذا المؤتمر المهم الذي أعتبره منعطفًا مهمًّا في رؤية الأزهر؛ لأن في هذا المؤتمر انفتحت رؤية الأزهر لدخول مؤسسات أخرى في عملية التجديد، لا كما يزعم البعض بأن الأزهر يحتكر تجديد الخطاب الديني وحده؛ فها هي المؤسسات العلمية المدنية وها هي جامعة القاهرة وها هي جامعة كاليفورنيا.

وأوجه أطيب تحية إلى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يرعى عملية التجديد في كافة المجالات.

في الحقيقة ربما تكون لنا رؤية مختلفة؛ حيث إن تجديد الخطاب الديني من وجهة نظري غير ممكنة لأن الخطاب الديني خطاب قديم نشأ حول المتن الإلهي المقدس، وقد اكتمل المتن الإلهي المقدس حين قال الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" هُنا اكتمل الدين، وهنا اكتملت دائرة الكلمات المقدسة، وما جاء بعد ذلك إنما هو جهود بشرية؛ سواء في علم أصول الفقه أو علم الفقه أو التفسير أو الحديث أو غيرها من العلوم، فجميعها جهود بشرية مُقدرة ونحترم إضافتها، لكنها تظل جهدًا بشريًّا قابلًا للصواب والخطأ، ومن لم يقل إنها قابلة للصواب والخطأ فقد قال بالعصمة، ومن قال بالعصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم تعلمون حكمه عند أهل السنة والجماعة.

إذًا فتجديد الخطاب الديني القديم غير ممكن؛ لأنه خطاب أُنشئ لعصر غير عصرنا وبظروف علمية وتحديات مختلفة تمامًا ومعظمها نشأ بعد عصر الفتنة، الذي لا نزال نحيا فيه من بعد مقتل عثمان حتى الآن.

كما أن تأسيس خطاب ديني جديد وفق مفردات العصر ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية غير ممكن دون تطوير العقل الديني، فكيف ننشئ خطابًا دينيًّا جديدًا ونحن نفكر بالطرق القديمة، وهذا هو الدرس الذي يجب أن ننتبه إليه من سنة الأنبياء وتقاليد الفلاسفة والمصلحين.

إن التراث بالغ الأهمية ومُقدر، ولكن يجب تجاوز التراث إلى صنع تراث جديد بمفاهيم جديدة وبمناهج جديدة. إنني أحب بيت أبي القديم لكنني لا أحب أن أعيش فيه، وأقدر تراثنا القديم لكنني أحب وغيري أن نصنع تراثًا جديدًا، وكما قال السلف نحن رجال وهم رجال، إذا لا بد من تطوير العقل الديني وفق مناهج العلوم الحديثة، ولا تكوين لعقل ديني جديد دون تغيير طرق التفكير، وتجديد علم أصول الدين؛ فالتجديد لا يشمل علوم الشريعة فقط، ولكن لا بد من تجديد علم أصول الدين، فنحن لا نزال أسرى الأشعرية والاعتزال وغيرهما من الفرق، وعندما نريد أن نجدد ننحاز لفريق دون فريق، وربما يستدعي من يُطلق عليهم المستنيرون الاعتزال، مع أن الاعتزال جزء من التراث القديم. وليس بصحيح أن المعتزلة كانوا يؤمنون بالحرية السياسية والاجتماعية، فالمعتزلة عندهم الحرية الميتافيزيقية، وعندما كانوا في السلطة فعلوا ما فعلوه بالإمام أحمد بن حنبل وبغيره من المخالفين. وأنا لا أدعو لتجاوز المعتزلة فقط؛ بل أدعو لتجاوز العقيدة الأشعرية كذلك لأن العقيدة الأشعرية وغيرها تقوم في جزء كبير منها على أحاديث الآحاد، نعم أحاديث الآحاد صحيحة، لكنها كما قال العلماء ظنية الثبوت فكيف آخذ بما هو ظني الثبوت في العقائد التي يجب أن تقوم على يقينيّ الثبوت يقينيّ الدلالة.

فالعقائد لا تؤخذ إلا من يقينيّ الثبوت يقينيّ الدلالة، ومعظم العقائد الأشعرية وغيرها من عقائد الفرق الأخرى تأخذ بأحاديث الآحاد، ربما يمكن أن نأخذ بأحاديث الآحاد في بعض الأحكام الشرعية، فهي أحاديث صحيحة لكنها كما قال علماء الحديث ظنية الثبوت، ولا أظن أن أحدًا من الجالسين في هذه القاعة يختلف على أن أحاديث الآحاد أحاديث ظنية الثبوت؛ فكيف نأخذ في العقائد - التي يجب أن تقوم على اليقين- بما هو ظنيّ الثبوت.

إذا لا بد من تجديد علم أصول الدين بالعودة إلى المنابع الصافية، أعني القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية المطهرة. فالتجديد يقتضي تغيير طرق التفكير وتغيير رؤية العالم، وتغيير رؤية العالم يجب أن يقوم على رؤية جديدة عصرية إلى القرآن الكريم بوصفه كتابًا إلهيًّا مقدسًا يصلح لكل العصور ولكل الأزمان.

استمعنا أمس إلى فضيلة الإمام وهو يؤكد على الفرق بين الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة، وأنا أُعيد هذا الفرق بين المتشابهات والمُحكمات؛ فالمتشابهات لم تأت عبثًا، وإنما جاءت لأن القرآن يصلح لكل زمان ومكان، وهنا أنتقل إلى نقطة بالغة الأهمية وهي تعددية الصواب، فهل القرآن الكريم كله قطعي الدلالة؟ أم أن به ما هو قطعيّ الدلالة وما هو ظنيّ الدلالة؟ وهل ظنيّ الدلالة أكثر أم قطعيّ الدلالة؟ بالطبع ظنيّ الدلالة.

والسؤال: هل جاء هذا عبثًا؟ لا؛ لأن القرآن جاء لكل زمان ومكان، ولا بد أن يكون جزء منه ظنيّ الدلالة حتى تتعدد المعاني؛ ومن ثم فالصواب ليس واحدًا بل الصواب متعدد، وهذا ما أكّده الرسول عليه الصلاة والسلام عندما أقر الفريقين في حادثة صلاة العصر عندما كانوا ذاهبين إلى بني قريظة، أقر صحة موقف الطرفين وانصرف إلى القضية الأساسية، وأيضًا كان الطرفان فاهمَين، ولم يقفا ليختلفا ويتركا الهدف الرئيس؛ بل انشغلوا بالهدف الرئيس أولًا وأجلوا الجدل المفضي للخلاف، وهذا هو الفرق بيننا وبين هؤلاء الناس.

الواقع الحالي للعلوم الدينية واقع إستاتيكي ثابت يعتمد على النقل والاستنساخ، وتعلمون كيف تكون الرسائل الجامعية؛ يبدأ بسيرته وحياته وتاريخه والتعريف الاصطلاحي والتعريف اللغوي، وأغلبها أكلشيهات واحدة قائمة على النقل والاستنساخ، بلا تحليل نقدي ولا تحليل علمي ولا استفادة من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل استعادة لكل المعارك القديمة.

إننا لا نزال نعيش عصر فتنة عثمان رضي الله عنه، وإذا تأملنا كل معارك داعش وجدناها هي هي المعارك السالفة؛ لأننا لم نستطع أن ندخل بعد إلى عصر جديد.

إذا فنحن ندعوا إلى تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين؛ لأن إحياء علوم الدين معناه أن نأخذ العلوم القديمة بكل ما فيها، ووالله الذي لا إله إلا هو لو عاد الشافعي مرة أخرى لأتى بفقه جديد، ولو عاد أبو حنيفة مرة أخرى لأتى بفقه جديد.

في حياة الشافعي فقط لا يوجد فقهان؛ بل ثلاثة، فلما كان في مكة كانت له آراء، ولما ذهب إلى العراق كانت له آراء أخرى، ولما جاء إلى مصر جاء بفقه جديد. وهناك من يتهمون الإمام أحمد بن حنبل بالتشدُّد، وأنا أتكلم أمام علماء يعرفونه جيدًا، ويعلمون أن معظم المسائل الفقهية في الكتب المرجعية الحنبلية للإمام أحمد بن حنبل - كالمغني لابن قدامة- له فيها ثلاثة آراء في المسألة الواحد؛، فمن أين ابتدعنا فكرة الرأي الواحد والصواب الواحد والحقيقة الواحدة، إذا كان هذا موقف أئمتنا القدماء. وإن كنت أدعو لإقامة علوم جديدة فليس معنى هذا أنني أقلل من شأنهم، فأنا أدعو للاقتداء بطريقتهم لا بمذهبهم؛ فثمة فرق بين المنهج والمذهب، فلو كانوا يفكّرون مثلنا لما أنتجوا علومًا كهذه التي أنتجوها. بل إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت مقرونة باستنكار موقف من هم قبله عندما قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا، فهل هذه آية لعصر واحد؟ أم لكل العصور؟ بل آية لكل العصور.

إذًا لا بد في التجديد أيضًا من الخروج من الدائرة المغلقة إلى دوائر أخرى من علوم إنسانية واجتماعية، في التجديد دوائر أخرى حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلنا نعلم حركة سيدنا إبراهيم، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، عيسى عليه السلام، كلهم احتكوا بثقافات أخرى، سيدنا موسى لم يأته الوحي إلا بعد أن غادر مصر وعاش في أهل مدين ثمان أو عشر سنين؛ فالوحي لا يأتي عبثًا ولكن الوحي يأتي لمن يأخذ بأسباب الوحي ومن هنا فإن الاحتكاك بدوائر معرفية أخرى أمر بالغ الأهمية؛ لأن حجرًا واحدًا لا يصنع شرارًا، ومن هنا فأنا أحيي فضيلة الإمام لأنه فتح الباب أمام الآراء والاجتهادات الأخرى من خارج المؤسسة الأزهرية العظيمة، فأنا شخصيًّا تربيت على احترام الأزهر وعلى تقديره، ولكنني أيضًا تربيت على أن من الممكن أن أختلف في الرؤية وربما في الأحكام، لكن للأزهر قدره وشأنه، ولا ينبغي الافتآت عليه أو الاقتراب من جهوده المرموقة للنهوض بهذه الأمة.

إنني أعتبر نفسي تلميذًا نجيبًا بين يدي الإمام شلتوت، فشلتوت مجدد حقيقي؛ لأنه عاد بالإسلام إلى بساطته الأولى، فعندما كنت صغيرًا كنت أقرأ المغني لابن قدامة والمجموع شرح المهذب، فلا أرى لدى الإمام شلتوت العمق والقوة والتعقيد الذي في هذه الكتب، لكن عندما كبرت أدركت أنه كان على صواب؛ لأن الإسلام في نشأته يقوم على البساطة، ولو أردنا أن نعرف بساطة الإسلام فلنرجع للقرآن وللموطأ، فالموطأ أصح كتاب بعد كتاب الله؛ لأنه الأقرب سندًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستجدون فيه بساطة الأحكام وعدم التعقيد وعدم وجود اللاهوت المُركب الذي يُشتت الناس.

إذا فالتجديد ليس تهذيبًا ولا اختصارًا ولا انتقاءً ولا شرحًا، التجديد هو بناء بمفاهيم وبمفردات جديدة لا مجرد أنك تنقي كتابًا أو تهذبه أو تخلصه من الإسرائيليات، نحن أيضًا ندعو إلى ضرورة الدراسات البينية وعدم النظر إلى علوم الدين كجذور منعزلة؛ فالفقه، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، أصبحت جميعها جزرًا منعزلة عن بعضها.

نحن الآن في عصر العلوم البينية فيجب أن تنفتح الجزر وتمتد الجسور بين مختلف العلوم، ولن نستطيع في المؤسسات الأكاديمية أن نأتي بخطاب ديني جديد إلا إذا غيّرنا المنهجيات والأسس الإبستمولوجية للدراسات الدينية؛ لأن هناك كثيرًا جدًّا من الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية، هناك خلط بين المقدس والبشري وهذا يحدث مشاكل كبيرة جدًا في تحديد الشريعة، هناك علم تفسير قديم يقوم على صحة الرأي الواحد وصوابه، بينما القرآن يتسع لمعانٍ عديدة ومختلفة، كلها تحتمل الصواب وكلها ممكنة التنفيذ.

لا بد من دراسات جديدة تتخلص من سيادة العقائد الأشعرية وتكون رؤية جديدة للعالم، ترفع الخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية من عدم التمييز بين قطعيّ الدلالة وظنيّ الدلالة، لا بد أيضًا من التمييز بين الأحاديث النبوية المتواترة وأحاديث الآحاد، ودرجات الحديث في الصحة والخطأ كبيرة جدًّا، وقد شرحتها في كتابي "مفاتيح علوم الحديث" الصادر عام ٨٦ من القرن الماضي.

من أهم الأشياء التي يجب أن نتوقف عندها أيضًا أن نفتح المجال للعلوم الإنسانية الحديثة فلا بد أن تفيد الشريعة وأحكام الفقه من الدراسات القانونية الحديثة. وحتى لا يكون كلامي إنشائيًّا وعامًّا فسأضرب مثالًا بسيطًا جدًّا؛ ففي النظريات القانونية الحديثة نظرية اسمها نظرية الأشكال القانونية المتوازية، فإذا كان هناك حكم اتبعنا فيه نفس الإجراءات ونفس الطريقة ونفس الأسلوب، وإذا أردنا نقض هذا الحكم فلا بد أن نتبع نفس الطريق ونفس الإجراءات، وهذا ما أريد أن أقوله في قضية توثيق الطلاق؛ فإذا كنا قد اتفقنا أنه في العصر الحديث وطبقًا للمتغيرات والمصالح المرسلة أن الزواج ينشأ بالتوثيق فلا بد وفق نظرية الأشكال القانونية المتوازية أن يكون الطلاق أيضًا بالتوثيق، وأنا هنا لا أتحدث عن الإثبات؛ بل أتحدث عن الانعقاد، وعلماء القانون والشريعة يفهمون ما أريد أن أقوله؛ لأن عصرنا أصبحت فيه متغيرات كثيرة جدًّا من غياب الضمير ومن تلاعب الرجال بالنساء ومن ضياع الحقوق.

ولتسمحوا لي أن أخرج ثوان عن المحاضرة، فبصفتي رئيس جامعة أوقّع كل أسبوع كثيرًا جدًّا من أحكام النفقة؛ لأن نسبة الطلاق عالية، وهؤلاء هم من لم يصلوا لحل مع بعضهم، فتلجأ الزوجة للقضاء طلبًا لنفقتها ونفقة أولادها، ويأتيني الحكم القضائي بصفتي رئيس جامعة لأوقع بتنفيذه، يعني وصل الحال إلى أن الأب المُطلِّق لا يريد أن يعطي أبناءه النفقة فتلجأ المطلقة للقضاء؛ فما بالك لو أنه طلقها لفظًا ولم يطلقها عند المأذون، أو طلقها عند المأذون ولم يقل لها، ماذا سيحدث إذا؟ فلا بد أن تكون هناك طريقة واحدة للإثبات والانعقاد.

وأعلم أن سماحة فضيلة الإمام وسعة صدره تتسع لكلامي؛ فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، من يملك الحقيقة المُطلقة الواحدة هو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو سبحانه.

واسمحوا لي - لأن الوقت لم يتسع لأقول كل ما أريد- أن أهدي فضيلة الإمام إجلالًا وتقديرًا كتابي "نحو تأسيس عصر ديني جديد" بالرجوع إلى المنابع الصافية القرآن والسنة.. أقول قولي هذا والسلام عليكم ورحمة الله.

Tourism