كل مفردات الحزن والأسى لما حدث لأكثر من اثنتى عشرة ضحية فرنسية، وبغض النظر عن جذورهم وخلفياتهم الاجتماعية والعرقية والدينية ولكونهم فقط أناسا انتهت حياتهم على يد مخبولين لا يستطيع أحد منا مهما ادعى أن يدرك ما هى دوافعهم من وراء هذا الحدث البشع الذى أدمى قلوب الكثيرين فى الشرق قبل الغرب، لم يعد هناك بد من الحديث عن المسكوت عنه فى ذلك الحدث والذى أعتبره دعوة للتأمل والتدبر أكثر من كونه وصفا وتفسيرا لما حدث.
أولا: لم يكن ما حدث فى باريس ليلة السابع من يناير سوى تعبير صريح عن فشل سياسات الاستيعاب للدول الطاردة والدول المستقبلة للمهاجرين ومنهم فرنسا، هذا الفشل الذى كان مبررا ساذجا للترويج للنظرية الجينية المرفوضة شكلا وموضوعا من قبل من يحترمون العلم وقواعده والتى تربط الفقر بالجينات فى مفردات حكومات بلد الارسال وتعتبر الفقراء فقراء بالوراثة! ونظرية الجينات التى تتبناها دول الاستقبال والتى تعتبر أيضا أن الارهاب بالجينات. لتفشل الدولتان معا الراسلة والمستقبلة فى ربط الفقر والإرهاب بالسياق الاقتصادى والاجتماعى المتدنى الذى يعيشه من هاجروا من دولهم الفاشلة فى استيعاب حد أدنى من مطالبهم كفقراء مواطنين، وهاجروا الى دول منقذة لبعض تطلعاتهم للمستقبل. ليكتشفوا بعد فترة أن تلك الدول لا تختلف كثيرا عن دولهم فهى "منحازة" ضدهم لأنهم ببساطة يحملون جينات الفقر والإسلام حتى لو مر أكثر من ربع قرن على بقائهم فى فرنسا ليعيش فقراء المهاجرين على هامش ثقافتين، فهم فقدوا جزءا من هويتهم المكانية، وعجزوا عن اكتساب جزء من هويتهم الاتصالية فى مجتمعاتهم الجديدة.
ثانيا: يعكس الحدث لغة خطاب إعلامية تعكس طاقة شديدة السلبية على حوار الشعوب والتقاء الحضارات، لغة متربصة، ومهووسة باتهامات العرب والمسلمين بأنهم ارهابيون بالسليقة، وما عداهم من الأمم مضطهد، ومنكوب، فهؤلاء المسلمون الهمحيون قد جاءوا إلى أوروبا لتدنيسها وتشويه منظومتها العبقرية لمنتهى الحرية والإبداع، والتعبير عن الرأى، واحترام الآخر الذى يبدو أنه "أخر" مختلف عن العرب والمسلمين لتجئ الازدواجية المعيارية فى أروع صورها وتؤكد أن صحفيى شارلى إبدو لهم الحق كل الحق فى افراخ إبداعاتهم حتى لو مست المقدسات والرموز الدينية لدى البعض ولما لا فهذا جوهر فلسفة مدينة النور التى يريد المسلمون الارهابيون أن يظلموها ويمارسوا الإرهاب فيها من خلال بحور دماء لا تتوقف. أما أن تمس الجريدة نفسها وبصحفييها ومبدعيها وبفلسفتها - التى يجب أن يدركها كل من تطأ قدمه الاراضى الفرنسية - أحد "الرموز" السياسية الفرنسية وهو "شارل ديجول" يتراجع مفهوم الإبداع وحرية الرأى وتتوقف الجريدة عن الاصدار بدعوى الرشادة! ليضع كل ذلك هالة حول أى رشادة فى حرية الرأى وأى إبداع رشيد يقصده المشرع والإعلامى الفرنسى؟
ثالثا: يفتح الحدث أيضا الباب على مصراعيه للقاصى والدانى أن يدلوا بدلوهما عن توقيت هذا الحدث، والتغنى بحالة الجحود التى يتصف بها العرب فى أوروبا حتى وصل الأمر الى دعوة العرب الى تنظيم المسيرات لتبرئة أنفسهم من تهم الارهاب ولفظ من ارتكبوها ولماذا لا؟ هؤلاء العرب الذين هرولوا من بلادهم الإرهابية الديكتاتورية فارين من ثقافة عبادة الحاكم وفشل دولهم الفاسدة السارقة إلى عاصمة النور حيث احترام الادمية، وتذوق الديمقراطية، واستنشاق نسمات الحرية ولكنهم أقوام لا تصلح لتلك الفلسفة، فهم عرب جيناتهم من "التوحش"، ودماؤهم من "الارهاب" وبشرتهم "السمراء" لا تؤهلهم سوى للبداوة والتخلف. ومن ثم ليس مستغربا حتى لو حاولت الحضارة الغربية أن تهذبهم وتعالجهم من أعراضهم الارهابية أن لا تنجح لأنها الجينات التى لا خلاص منها إلا بالموت. ولذلك كان قتل هؤلاء "الأخوة" كواشى اللذين أعطيا بقصر نظر وغباء منقطع النظير الفرصة الذهبية لكل تلك الخرافات الجينية أن تنهض من مرقدها الدفين، وأن تحيي عظام رميم نظرية أن هذه الشعوب البدائية لا خيار أمامها إلا أن تركع أمام عرش المنظومة الغربية. إنها الفرصة لتسييس كل ما حدث فى الوقت الذى تقدم فيه معظم الدول الغربية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ووضع القضية العربية موضع الآدمية. إنها الفرصة لترديد المزيد من مفردات المظلومية عن الصهاينة وإنقاذهم من توحش العرب وإرهابهم، إنه التحذير الصريح لزعماء أوروبا ولفرنسا الصديقة القديمة للعرب والمسلمين أن من يغرد خارج السرب عليه أن يتراجع ويعيد النظر على الأقل فى الاعتراف بتلك الدولة العربية الموبوءة بجينات الإرهاب وهى فلسطين مما يشكك فى أن الغرض من الحدث كان قتل الرسام الفرنسى "الكافر" كما يدعى البعض وإلا لماذا الاقدام على هذا القتل الجماعى بتلك الوحشية؟ ولماذا يقتل كواشى اثنين مسلمين بين ضحايا تلك المجزرة؟ ألم يسأل أحد كيف يقتل أحد بهذه الحرفية والإجرام ويترك الهوية الشخصية له فى سيارة على بعد ثلاثة كيلو مترات من موقع الجريمة على غرار الأفلام البوليسية الكوميدية، ألم يكن المسكوت عنه هنا أن "المجرم" و"الارهابى" فى النهاية يحب أن يكون عربيا مسلما؟ لعبة قديمة بمفردات وآليات صهيونية مستحدثة، والحقيقة غائبة وذاهبة حيث قتل الإخوة كواشى.
رابعا: يطرح الحدث مزيد من الاسئلة غير المفهومة وهى ما هو تعريف الغرب للعرب؟ هل هو من ولد فى فرنسا وتربى فى مؤسسات التنشئة الفرنسية بعد وفاة أبويه العرب، وعاش فى مدينة النور لمدة تزيد علي ثلاثين عاما، ويتحدث اللغة الفرنسية ويكتبها ولم يحمل سوى الجنسية الفرنسية عربى؟ ولماذا تستدعى الجينات العربية الاسلامية عند الارهاب وتتلاشى عند الإبداع والفن والحضارة؟ وهل من هو مسلم بالميلاد ويرتدى رداء الفاشية ويقتل البنات فى نيجريا ويحرم العلم، ويقتل ويغتصب النساء فى سوريا والعراق ذريعة للدعوى بتأديب كل مسلمي العالم؟ ألم يفكر أحد فى أن هذين الأخوين هما فرنسيين نشأة وثقافة؟ ألم يطرح أحد لماذا أقدم هؤلاء على فعلتهم الشنعاء هذه ولماذا ارتدوا الى ولاءتهم الأولية إذا لم يكن الفشل صريحا فى سياسات فرنسا فى استيعاب سكان "الضواحى" الفقراء والمهاجرين الجدد؟
ألم يوجه أحد النظر الى العلاقة الارتباطية بين "ازدواجية" المعايير والقيم المنتجة للشعور بالتهميش وتداعياته المدمرة على النفس البشرية وتنامى توجهات العدوانية والتدمير لدى "الاخر" الذى يصر الاوربيون أن يرجعوا بشاعته وتعطشه للدماء الى الجينات؟ ألم يفطن أحد الى أن الحضارات العالمية لا تجذب ولا تفتن إلا اذا ارتبطت بتحقيق العدالة والرضا والتضمين وليس بالتغنى بمفردات جوفاء ومعايير تحتقر كل من هو مختلف وتتربص بكل ما هو مستبعد وتأبى تسييس الجريمة حتى لو كانت هناك قرائن.
ليت بعضنا يعلم أن جلد الذات والتبرؤ من جريمة لم يرتكبها العرب والمسلمون، لن تفيد كثيرا لإصلاح "صورة العربى المسلم" والحصول على ما يستحقه من مكانة فى العالم، وحتى لو كان منا من يعشق الثقافات الغربية، عليه أن يعمل على الحفاظ على البقية الباقية منها وأن يروج الى أن الأنسنة والارهبة ليست بالجينات ولكنه السياق الصديق لتخليد دائرة التوحش والبعد عن الانسانية حتى لو كان هذا فى عاصمة النور، وبدلا من أن نرفع شعار كلنا شارلى إبدو على واجهة المعهد العربى بفرنسا متبرئين مما فعله من لحقوا بجنس العرب رغم أن التنشئة لم تكن هناك، علينا ألا نخجل ونرفع شعار عربى مسلم وأفتخر وأدين الارهاب فى كل مكان وزمان.